لعبة الشطرنج: بقلم الكاتب جميل فتحي الهمامي_تونس

 لعبة الشطرنج:

أذكر جيدًا تلك اللحظة التي طلب مني ذلك الذي يقبع في فناء العالم أن أتعلم هذه اللعبة لكي نستطيع أن نجد لأنفسنا مساحةً جديدة من اللقاء، ربما هو كان يخطط أن ينقل إلي رسائل بلا مرسل، أي أن أعثر من خلال تعلمي لهذه اللعبة على بعض الأجوبة التي تخص أكثر من سؤال لطالما راودني، أهمها تلك التي طرحها "إليا أبو ماضي" في ملحمته "لست أدري".


إن أول إجابة ستجدها على الرقعة هي قوانينها التي تسبقك، كيف تتحرك القطع، الألوان المتقابلة، الحركة الأولى لمن، كيف يمكنك أن تأكل خصمك، متى تنتهي اللعبة، الخ، كل هذا يمكن أن يقابل جهاز الحياة، لغتك، دينك، وهويتك الجنسية وتاريخك الجيني، عائلتك، كلها جهاز يسبق ميلادك، يسبق كل إرادة حرة قد تحظى بها، هو هكذا العالم، موجود وسيستمر وجوده قبل ميلادك وبعد فناء إختبارك له، هنا يلتقي العالمان للوهلة الأولى، كيف جئنا، متى جئنا، لماذا تسير الأمور بهذه الطريقة، ملخا أمور يمكن لك أن تدرسها في حجارة الآركيولوجيا، لكننا ياصديقي جئنا بكامل تاريخنا الوراثي، خاضعين له، لنلعب!


تبداء الحركات، ليست عشوائيةً بأي حال، حركات متناسقة، متناغمة، تربط شرق الأرض-الرقعة، بغربها، تربط جنودك، تقنياتك، تكتيكاتك، بإستراتيجيتك، بألتر إستراتيجيتك، تندفع البيادق بهيكل موحد، تدعم بتقنياتك الأشد قوة، لتشكل عالمًا، ماهو طريف الآن أن هذا العالم الذي تشكله أمامك في الرقعة، بإرادتك الحرة، لايأخذ معناه المناسب وسياقية غاياته وتماسكه الداخلي إلا بحضور هذا العالم الذي يقابلك، إنه جدل عالمين ينتفيّان رويدًا رويدًا لينشاء عالم جديد يتجاوزهما، عالم جديد تعطى فيه قيمة الأشياء من قيمة مايقابلها، تدافع حين يهاجم، تهاجم حين يدافع، تفعل مايتجاوز إرادتك، قد تتوقفان عن اللعب وتتحاوران حول وجود الله، حول معنى العدالة، ثم تواصلان معركتكما، في هذا السياق تحديدًا ينفصل عالمان، عالم يجعل من المعركة لحظة عبور ناحيتكما معًا، ناحية تلك الأبدية التي تولد في مجازات رقعة الشطرنج، وثمة عالم أخر ينحط بكما ناحية مايمكن أن نسميه باثولوجيا الإيغو، أن يعم الصمت وتتكلم البنية، تتكلم حتميات الرقعة، فينتصر الماضي على جمالية الحاضر.


تصل اللعبة لنهايتها، يشيح الرب عن وجه التاريخ، حيث منتصرون و منهزمون، أسياد وعبيد، سادة ومسودين، حيث لامفر من مواصلة الحرب، بأن يبقى الملك يتيمًا، محاصرًا، ينتظر فنائه المحتوم، فلم يتبقى له من طفولةٍ يحتمي بها، لم يتبقى له من سنوات شبابه غير الذكرايات المليئة بصور القتلى والمهاجرين، لم يتبقى من كهولته سوى بقايا تأملات في الفراغ الكوني، هناك يبداء بحفر قبره بكلتا يديه، يكتب إسمه وتاريخ ميلاده وتاريخ موته الحتمي، في فناء العالم، برفقة صديقه الذي علمه اللعب وماينبغي له.



تعليقات