الدكتورة و الباحثة في علم الإجتماع مريم بوعلي تكتب: مقال بعنوان:تأثير المعاملة التميزية بين الجنسين على المردود المدرسي
مقال بعنوان تأثير المعاملة التميزية بين الجنسين على المردود المدرسي دراسة مقارنة بين التلاميذ و الطلبة مثال ولاية صفاقس ( إعداد الباحثة في علم الاجتماع مريم بوعلي ) :
الإشكالية السوسيولوجية :
لقد توجّهت العلاقات داخل الأسرة في تونس نحو تنظيمها على أساس تقاسم الأدوار بين الجنسين قوامها التكافؤ و المساواة بين الجنسين و إعطاء الفرصة للمرأة ككائن قادر و تحرري و كسرت بذلك البنية الباتريركيّة المهيمنة على العائلة التقليدية التونسيّة و تعمّق بذلك نمط الحياة العصريّة من خلال إدخال المرأة في عجلة الحياة الاقتصاديّة , هذه المزاوجة بين العمل الخارجي( الدخول إلى سوق الشغل ) و العمل الداخلي ( المنزل ) بالإضافة إلى اهتمام الأب بالعمل فقط ( توفير مستلزمات العائلة ) جعلنا نتساءل هل وفقت العائلة التونسيّة في تنشئة أطفالها تنشئة تساهم في إدماجهم ضمن ثقافة المدرسة ؟ وهل أن الخارطة الجنسيّة الجديدة القائمة على مبدأ المساواة بين الجنسين هي نمط قائم الذات أم انه مجرد خطاب نظري عسير التطبيق ومحكوم بترسّبات اجتماعيّة تميز بين جنس الذكر و الأنثى؟ ماهي أهم إفرازات التنشئة التباينيّة و كيف تؤثر على المردود المدرسي بين الجنسين ؟ لقد حاولنا رصد هذه الظاهرة و ترسباتها في مدينة صفاقس وصبونا من خلال هذا البحث إلى اكتشاف أهميّة العائلة كخليّة في حياة الطفل و تأثيرها على حياته المدرسيّة ودور الانسجام العائلي في تحقيق طموحات الفرد التربوية و المهنيّة , ودراسة التفاوت بين الجنسين اعتمادا على مقاربة النوع الاجتماعي داخل مجتمع محلي (ميكروسوسيولوجي ) و هو المدرسة من أجل إثبات أن هذا التفاوت يبدأ من داخل العائلة ويمكن أن يستمرّ مع المدرسة رغم محاولات تقليصه لاحقا , وبالتالي يمكن ان نطرح الإشكال السوسيولوجي التالي :إلى أي مدى يمكن أن تؤثر المعاملة القائمة على التمييز بين الفتى و الفتاة من قبل العائلة على المردود المدرسي لكل منهما؟
فرضيات البحث :
لقد اعتمدنا فرضيات التالية :
تأثير طريقة التنشئة المستندة إلى قيم اجتماعيّة تمييزيّة سائدة على تفاوت المردود المدرسي بين الجنسين .
يساهم ارتفاع المستوى التعليمي للوالدين أحدهما أو كلاهما في انخفاض درجة التمايز في معاملة الأبناء بما يساعد على تحسين النتائج الدراسيّة.
كلما ارتفع المستوى المادي للعائلة تقلصت إمكانيّات المعاملة التمييزية بين الجنسين من قبل العائلة بما يحسّن النتائج الدراسيّة .
تؤثر آفاق التشغيل على المردود المدرسي للمتعلّم بالنظر إلى متغيّر النوع الاجتماعي.
لتحليل الفرضيّات التالية اعتمدنا على المتغيّرات التالية السوسيوديمغرافيّة ( العمر و الجنس ) والمتغيّرات الاجتماعيّة كالمستوى التعليمي و المتغيرات الجغرافيّة ( المحيط الحضري
والريفي )و المتغيّرات الاقتصاديّة( آفاق و حظوظ التشغيل) .
الجهاز المفاهيمي :
لتحليل الفرضيّات التالية اعتمدنا على إطار نظري معمق واعتمدنا التالي :
مفهوم التنشئة : تدل التنشئة الاجتماعيّة في معناها العام على العمليّات التي يصبح من خلالها الفرد واعيا للمؤثّرات الاجتماعيّة حتّى يتعلّم كيفيّة العيش مع الآخرين فالتنشئة هي عمليّة تفاعل اجتماعي يكتسب فيها الفرد شخصيّته و ثقافة مجتمعه .
مفهوم التربية: التربية هي التنشئة العلميّة و المعرفيّة الاجتماعيّة للناشئة سواء في الأسرة أو في المؤسّسات التعليمية الخاصّة و العامّة فموضوع التربية هو تعليم الولد العلوم و تقنياتها أما موضوع التنشئة فهو تعليم الولد بعض آداب السلوك و الحياة.
مفهوم المدرسة : المدرسة في اللغة هي مصدر مشتقة من الفعل الماضي درس و هي اسم مكان يختص بتدريس علم أو موضوع أو سلوك أو خبرة ما وهي مؤسّسة تربويّة يعتمدها المجتمع لتطوير الناشئة أفرادا وجماعات لمواصفاتهم الشخصيّة و الاجتماعيّة و الوظيفيّة و في الوقت الذي تكون فيه المدرسة أداة لتطوير الفرد و المجتمع فانّ تركيبتها المواد الدراسيّة التعليميّة و البيئات الشكليّة و القوانين و أحكام الإدارة و التنظيم و التعامل اليومي المتواجد فيها يمثل مجتمع مصغّر فالمدرسة هي تنظيم اجتماعي له أهدافه ووظائفه الخاصّة في المجتمع (الوظيفة التعليمية و التربوية و التنشيئيّة الخ ) .
مفهوم العائلة : هي مؤسسة اجتماعيّة و اقتصاديّة تعنى برعاية الأفراد و التحكم اليومي في علاقاتهم الاجتماعية و أخلاقهم و نشاطهم الاقتصادي و يعرف كلود لفي ستروس الأسرة في كتابه الانطولوجيا البنيوية بجملة مختصرة تؤكد على حضور الأسرة كسند أساسي لتنظيم حياة الأفراد " نستطيع القول بانّ المجتمعات قد وجدت بوجودها وهي تستمر باستمرارها " وبذلك فان الأسرة تحتضن الأفراد في مراحل أعمارهم من الطفولة فالمراهقة ثم مرحلة النضج ثم الرشد و تحاول ضمان تكيّفهم العائلي.
مفهوم التمييز المقاربة السوسيولوجية للتمايز الاجتماعي مفهوم التمايز أسسه و معاييره وأصنافه :
يستعمل اصطلاح تمييز في اللغة الدارجة ليعني عملية التفرقة أو التحيّز في معاملة الناس
أو معالجة القضايا لمقاييس موضوعيّة كاستعمال مقياس العمر لمنح الحق في التصويت السياسي أو مقاييس درجات الذكاء والمؤهلات الثقافيّة للدخول إلى الجامعات الخ.
اللامساواة في الحظوظ المدرسيّة حسب بورديو :
إن النجاح المدرسي يتأثر بالثقافة المكتسبة في المحيط العائلي إذ أن الطلبة و التلاميذ المنتمين إلى عائلات مترفهّة ماديا لهم حظوظ اجتماعيّة تمكنهم من النجاح و بالتالي فان الأبعاد الثقافية للموروث الذي يكتسبه الطلبة تعتبر محددات للنجاح . فالمدرسة تبين أن اللاّمساواة في النجاح المدرسي ناتجة عن تفاوتات في الاستعدادات الشخصية لكل فرد و يعتبر بورديو الثقافة المدرسية ليست بريئة فهي خصوصية بقوله كالتالي :
« la culture scolaire est une culture de classe »
اللامساواة في الحظوظ المدرسيّة حسب بودون :
تعد اللامساواة في حظوظ التعليم نتيجة للتراتب الاجتماعي إذ أن اختلاف الوضعيات الاجتماعيّة للأفراد تنتج اختلاف في التوقعات و القرارات التي تؤثر حتما على الحظوظ المدرسيّة إذ أن الفوارق في نوعيّة الرأسمال الثقافي الموروث و التي تختلف باختلاف الانتماء الطبقي الذي ينتج تفاوتا في الحظوظ المدرسيّة هي في أصولها اقتصادية اجتماعيّة .
مفهوم المردود المدرسي :
يقصد به النتائج المدرسيّة التي يتحصّل عليها التلميذ طيلة السنة الدراسيّة ( و التي تعرف بثنائية النجاح و الرسوب ) و يعرف سعيد خير الله المردود المدرسي كالتالي : "المردود المدرسي هو مجموع نتائج التلميذ التي تقاس بالاختبارات التحصيليّة في المدرسة في نهاية العام الدراسي" وهو ما يعبر عنه مجموع أداء التلميذ في جميع المواد الدراسيّة حيث لا يستطيع المدرس أن يستغني عن الاختبارات التحصيليّة في قياس أداء تلاميذه تشكل الاختبارات ركيزة هامة من ركائز عملية التعليم .
الإطار النظري :
أما الإطار النظري فيتمثل في :
اعتمادنا على مقاربة النوع الاجتماعي و مدى أهميتها في تناول مسالة التفاوت في الحظوظ بين الفتيان و الفتيات.
أولا مقاربة النوع الاجتماعي:
إن كلمة الجندر هي كلمة غربية انجليزية الأصل تعني في القانون نوع الإنسان التي جاءت بدلا من كلمة (sexe ) بمعنى ذكر و أنثى لكن الجندر له مفهوم آخر لا هو الرجل و لا هو المرأة فالجندر يعتمد على فكرة انه رجل لأنه رجل ولا المرأة كذلك لأنها امرأة لان التنشئة الاجتماعيّة هي التي تجعل من ذلك رجل ومن تلك المرأة "فمصطلح الجندر يعني الفروقات بين الجنسين على أسس ثقافيّة واجتماعيّة وليس على أسس بيولوجية وفيزيولوجية" و بالتالي فان مسالة النوع الاجتماعي هي مسالة ثقافية يعني انه عادة تعودنا إلى أن ترفع كل أشكال التمييز بين النساء و الرجال إلى أنماط طبيعية أي أنها تستجيب للطبيعة فالمفهوم جاء ليؤكد ان كل تلك البناءات ليست مؤسسة على الطبيعة إنما مؤسسة مبنية اجتماعيا .
النوع الاجتماعي و علاقته بالتفاوت في المردود المدرسي :
العلاقة بالمعرفة :
هي مفهوم جديد يتصل بنوع الانتظارات والمواقف و الرؤى التي يبديها المتعلّمون تجاه المعارف المدرسية فالمردود المدرسي و السلوك الدراسي يتأثر بحاجات المتعلم و انتظارا ته ولقد أكد بارنار شارلو (Bernard charlot) على أن علاقة المتعلم بالمعرفة هي علاقة اجتماعية لان المتعلم ليس ذات مستقلة إنما يحمل تجربة وثقافة اجتماعية فالأولياء يقومون باستمرار وظيفة المعرفة و المدرسة إيجابا أو سلبا حسب قيم ومقاييس محددة مما يساهم في التقييم الذاتي وبروز رغبة الإقبال على المعرفة أو النفور منها مما يولّد لدى الطفل تعلقا تفاضليّا بالمعرفة فيثمن بعضها و يبخس البعض الآخر .
العلاقة بالمعرفة و اختلاف درجة التعويل على المدرسة :
يقول بارنار شارلو " إن الفتيات عموما أكثر تعويلا على المدرسة مقارنة بالفتيان فكثيرا ما تكون الطموحات و المشاريع الدراسية متفاوتة بين الجنسين كما تتأثر نزعات كل منهما فالفتيات يفضلن المهن الأدبيّة فيملن إلى الدروس ذات النفس الطويل أما الذكور خاصة الذين ينتمون إلى الطبقات الاجتماعيّة الشعبيّة فتعتبر طموحاتهم الدراسية أكثر تواضعا كما توجد نسبة كبيرة منهم تحلم بالارتقاء الاجتماعي لكن دون حاجة إلى التعويل على المدرسة" ولذلك نلاحظ أن المشاريع الدراسية تختلف بين الجنسين فبينما تتجه الفتيات إلى مواصلة الدراسات لتحقيق الذات وبناء الشخصيّة المحترمة فان الأولاد يعتبرون الدراسة وسيلة للحصول على مستوى تعليمي يمكّنه من اقتحام سوق الشغل.
التمثل الجنسي للمواد التعليميّة :
يستند التمثل التراتبي للمواد الدراسيّة لدى المتعلمين بالأصل الاجتماعي و يتمثل المتعلم التوزيع التراتبي للمواد الدراسيّة واقع منطقي غير قابل للتبرير أو التغيّر و إن تبيّن خطّئه أو حتى إن أفضى إلى تحصيل دراسي غير مرغوب فيه أو غير متوقع و هو ما يضعنا أمام القوالب الجاهزة stéréotypes)) ذات الأصل الجماعي في خلفية تكوّن تصور المتعلم من المواد الدراسيّة . يحمل المتعلمين هذه القوالب الفكرية الجاهزة عبر التنشئة الاجتماعية مما يستدعي الوقوف على تأثير الأسرة في تشكيل تصوّرات المتعلمين للمواد التعليميّة وصياغة مواقفهم منها فلقد استطاع (Chambon) تبيان دور القوالب الفكرية المنقولة اسريّا للأبناء عبر تبيّن ارتباطها بمعطى الجنس حيث انه وقف على وجود تقسيم جنسي للمواد يقابله تباين في ميولات الجنسين للمواد ذلك أن تصور المادة و مدى توافقها مع الانتماء أو التقسيم الجنسي للمواد ذو المرجعيّة المجتمعيّة لا ينفصل عن مستوى أداء المتعلّمين.
تأثير الصور النمطية على علاقة التلاميذ من الجنسين بالمدرسة :
يذهب اتجاه الرأي العام للمدرّسين بانّ سلوك القراءة هو سلوكا أنثويا أكثر منه ذكوريّا و أن الرياضيات والمنطقيّات هي من المجال الذكوري , تؤثر هذه الصور النمطيّة على مردود الأولاد إذ يخضعون لضغوطات معنويّة من قبل جماعة الزمرة حيث يتجنب الذكور البروز في مواد مثل القراءة لأنهم يعتبرونها اختصاصا أنثويا و يقوى هذا التأثر بالصور النمطيّة خاصة لدى التلاميذ المنحدرين من عائلات شعبيّة.
اختلاف التجارب المدرسية بين الجنسين و تأثيرها على المردود المدرسي :
تتمتّع الفتيات بتقدير أفضل لدى المدرّسين لانسجام تصرفاتهن داخل القسم كما أن ممارستهن لمهنة التلميذ تمكنهن من الاستجابة لأفضل الواجبات المدرسية باعتبارهن اقل مشاكسة وإثارة للضجيج هذه الصفات تلتقي مع ما تفضله المدرسة و نلاحظ على مستوى أيضا علاقة النوع الاجتماعي بالتفاوت في المردود المدرسي انه حتى في مجال اضطرابات التفوق و التحصيل يعتبر شهاب يحياوي " الذكور أكثر قلقا و تعرضا لظاهرة الخوف من النجاح المدرسي بنسبة أكبر من الإناث".
تأثير جماعات الزمرة على المردود الدراسي للجنسين :
إن القيم التي تحملها جماعة الأقران لا تدخل في اهتماماتها النجاح في الدراسة أو المشاركة البناءة في النشاط العملي الدراسي فهذه المجموعات من شانها أن تخفض في الانجاز المدرسي لدى الأطفال فهي تقدّم أعضائها في منطق خاص من الفعل وردّ الفعل يقصي المراهق عن النشاط المعرفي و تحقيق النجاح المدرسي إلا أن التنشئة ضمن جماعة الأقران يمكن أن تكوّن شخصيّة واثقة ومتحدّية تساعد الطفل على التعرّف على قواعد اللّعبة الاجتماعيّة بما فيها من عنف تنافس وتحايل أو تضامن و تعاون ولقد صاغ جون هاريس نظرية حول تنشئة الطفل عن طريق جماعة الأقران أكد من خلالها أن الطفل يبني شخصيته أثناء التفاعل مع مجموعات الأقران و تقوم هذه النظرية على عدة عناصر من أهمها :
أولا : إن أطفال كل مجموعة يحتاجون إلى التميّز عن الآخرين و الدخول في مواجهة مع أطفال من مجموعات أخرى لإبراز هويّتهم الجنسية الاجتماعية فتسعى أعضاء المجموعة لبذل جهودها للدفاع عن مجموعتها وضمان تفوقها على المجموعات الأخرى .
ثانيا : إن ما يميز المجموعة هو امتثال أعضاءها لما يتقرّر داخلها وتشتد هذه الامتثاليّة عندما تتعرّض المجموعة إلى اعتداء خارجي ويسود شعار إن مثلهم هو مثلي و كثيرا ما يلاحظ هذا السلوك عندما يقرر المدرسون معاقبة احد التلاميذ إذ يستعمل أصدقاؤه كل من في وسعهم للتضامن معه و حمايته من العقاب نظرا لدور المجموعة في تسهيل عمليّة تمرير القرارات الجماعيّة و المواقف المعادية للدراسة حيث يمكن أن يمتنع أعضاء المجموعة عن الحضور للدراسة أو عدم القيام بالواجبات المدرسيّة ليست سوى أن المجموعة قرّرت ذلك لتجعل المدرّس في موقف محرج لا يستطيع الخروج منه بسهولة و بالتالي لا يقدر المدرس على معاقبة كل أفراد المجموعة التي تحوّلت إلى قوّة ضاغطة تقدر على حماية نفسها من الأخطار الخارجيّة المتمثلة في الإدارة و المدرّسين.
ثالثا : إن المجموعة تصنف نفسها ذاتيا حسب المجموعة المقابلة لها إذ يصنف الفتيان أنفسهم ذكورا و يواجهون الفتيات داخل قاعات الدراسة أو في الملعب الرياضي أو في ساحة المدرسة و يلاحظ المدرسون نوعا من الفصل التلقائي بين أماكن جلوس الفتيات و أماكن جلوس الفتيان إذ يجلس الفتى بجانب الفتى و تجلس الفتاة بجانب الفتاة و يتضح هذا التموقع أكثر للنموذج الذكوري في مقابل الأنثوي و خاصّة في المرحلة الإعدادية و يبرز داخل فصل الدراسة موقعان ( موقع ذكوري اختار المقاعد الخلفيّة تساعده على الضحك و المشاكسة و إحداث الضجيج وموقع أنثوي يختار الجلوس في المقاعد المتقدمة تساعدهم على الانتباه و الاهتمام بالدرس) .
مبحث النوع و مسالة التنشئة :
كيف تكون التنشئة تنشئة تباينيّة على أساس تصنيف جنسي هل هناك تربية أو تنشئة خاصّة بالذكور وأخرى خاصة بالإناث ؟
إن تحديد هذه المداخل النظرية لا يكتمل إذا لم نعتمد مقاربة سوسيولوجية تعتمد على النوع الاجتماعي كمتغيّر يمكن أن يؤثّر في التفاوت في المردود المدرسي بين الجنسين.
التفاوت إنتاج اجتماعي
يعتبر التفاوت بين الذكور و الإناث إفرازا من إفرازات التنشئة الاجتماعيّة فتتشكّل المفاهيم الذكوريّة الأنثوية جزءا هاما من رؤى العالم و تصوّرا من تصوّراتنا للحياة المجتمعيّة. إن ميكانيزمات التنشئة تقوم على تصنيف الأشخاص على أساس الذكورة و الأنوثة و هذه المقولات تبنيها الثقافة و انطلاقا من هذا الأساس فإذا تفطّنا إلى أبسط الأشياء فإنها يمكن أن تلقي نظرة على الواقع الاجتماعي الرحب الذي يفصل بين عالمين ( الذكورة والأنوثة ) ,فمثلا لكل من الجنسين طريقة لعبه الخاصّة به في الأعياد فالعاب الأولاد تتصّل بالحرب و الفروسيّة و الفضاء و سباق السيارات و المغامرات و الرياضيات العنيفة وهذه الألعاب تقوّي الهيمنة والسلطة لجنس الذكر أما ألعاب الفتيات فهي تتصّل بالحب و الزواج و التعليم و تمثيل دور المدرّسة و العواطف الرقيقة و الحياة المنزليّة و تربية الأبناء , و لعل الصورة أكثر دلالة على الفتاة هي رمز الحياة ذلك الرمز المتجسد في الدمية . إن المدرسة تعدّ الإطار الثاني للتنشئة الذي تنمو فيه الاختلافات و يتعمق فيها التمايز بين الجنسين و يتضّح التمايز الجنسي أيضا من خلال إطار آخر للتنشئة الاجتماعيّة يتمثل في جماعة الزمرة من خلال نظرية هاريس (1999) في التنشئة عن طريق جماعة الزمرة. كما أن التقسيم (ذكر / أنثى ) يتجاوز حدود العائلة إلى المدرسة التي تتوقع نجاحات متفاوتة لدى التلاميذ و أن لكل جنس بيولوجي طريقته في التفكير والدّراسة فإذا كانت الفتاة تعوّل في المدرسة على الحفظ و التذكّر فان الفتى يعتمد استراتيجيّات الفهم وبناء العلاقات بين المعطيات و المفاهيم و كذلك هناك فوارق في مستوى الإسهام و التعلق و حب المدرسة إذ تبدو الفتاة أكثر تعلقا بالمدرسة نظرا لأنها تطمح لمستقبل و حياة أكثر رفاهيّة أما الفتى فهو يراوح بين المدرسة و تعلقه بالشارع و جماعات الأنداد كما يبرز التصنيف أكثر في تقييم المواد ( مواد تحبها الأنثى و تتفوّق فيها أكثر من الرجل كالآداب و العلوم و الاقتصاد و اللّغة و القراءة والنحو و مواد يتألق فيها الفتى أكثر كالفيزياء و الهندسة والرياضيات و التقنية . إن الفرد هو نتاج اجتماعي فللفرد حاجات يرغب في إشباعها داخل الأسرة من بينها حاجته للانتماء و الحب و يتحرك الفرد داخل الأسرة ضمن ضوابط اجتماعيّة محدّدة لذلك تستوجب عملية التغيير لهذه الضوابط قدرة كبيرة من الفاعل الاجتماعي على الإقناع و التفاوض فتنشا الفتاة داخل الأسرة وقد تشربت بمفهوم الطاعة و الانصياع و وينشا الفتى ممتلكا لمواصفات الذكورة و الفحولة وهذا التمييز في التنشئة يتم استبطانه من الناشئة لذلك ليس من السهل تغييره لان ذلك يتطلب استعدادا من الفرد لتقبّل قيم ثقافيّة جديدة ووعي بضرورة تعديله لسلوكياته بما يتماشى مع هذه القيم .
العمل الامبيريقي :
اعتمدنا في هذا البحث السوسيولوجي على بحث ميداني كمّي عن طريق العينة المسحوبة من المجتمع الأصلي الممثلة له و تتألف من عدد محدد من التلاميذ المبحوثين الذين يزاولون تعليمهم في مختلف المراحل التعليميّة لنتبيّن أوجه التمايز لدى العائلة بين الجنسين و تأثير ذلك على المردود المدرسي .
كما اعتمدنا كأدوات بحث استمارات استبيان (100 استمارة مع الطلبة و 100 استمارة مع التلاميذ ) مكمّلة بمقابلات مع الأولياء (32مقابلة) بهدف اختبار الفرضيات المقترحة سابقا و لقد ركزنا مدار العمل الميداني في المدارس الإعدادية و الثانوية و الجامعات بهدف المقارنة بين الطلبة و التلاميذ واخترنا ولاية صفاقس ميدان البحث لتناول الإشكالية المبحوثة. ولقد استنتجنا من بحثنا أن التمييز لا يقتصر وجوده على مؤسّسة الأسرة فقط بل هو عمل مشترك بين مؤسستين الأسرة و المدرسة إذ بيّن العديد من الطلبة (%30) من نسبة %56 إحساسهم بالتمييز داخل المدرسة و أيضا تلاميذ المرحلة الثانوية. وبيّن العديد من أفراد الفئة المبحوثة من شباب المرحلة الإعدادية أن لحظة التعارف الأولى هي لحظة التمييز الأولى لان هناك أسئلة تثبت التعامل على أساس العنصريّة ( السؤال عن الانتماء ومهنة الأب و الأم و الانتماء الطبقي). كما لاحظنا أن التمييز يقلق ذات التلميذ أكثر لأنه في فترة المراهقة التي تستدعي الإحاطة به من طرف الأولياء فيمكن للتمييز الجنسي بينه وبين شقيقته أن يؤثر في نفسيته و على مردوده الدراسي في حين يقلق الطالب من التمييز الممارس داخل الجامعة و استنتجنا أنّ المتابعة الدراسيّة ترتفع أكثر لدى أولياء التلاميذ باعتبار أن التلميذ في مرحلة أوليّة ومتقدّمة يحتاج إلى انتباه و متابعة من طرف العائلة لذلك يرتفع مستوى المتابعة بالنسبة للتلاميذ و تتقلص لدى الطلبة باعتبار أن الطالب الجامعي في مرحلة تخوّل له تحمل مستقبله المهني و الدراسي و في إطار المتابعة الدراسيّة لمحنا تمايزا في المتابعة بين الجنسين إذ أثبتت شهادات الأولياء المقابلين اهتمامهم و متابعتهم المتزايدة للجنس الأنثوي إذ تستثمر أكثر عائلات الفئة المبحوثة في المشروع الدراسي للفتاة أكثر من الفتى و ذلك نتيجة للتناقض في السلوك الدراسي بين الفتى و الفتاة ففيما تثبت الفتاة اهتمامها المتزايد بالدراسة فتحرص أكثر على المواظبة في الحضور و الانضباط داخل المدرسة و هذا ما يمكنها من تحقيق أفضل النتائج الدراسيّة وفي المقابل يبدو الفتى أكثر مشاكسة و إثارة للضجيج مما يجعله يتحصل على الإنذار أو الرفت و ينقطع سريعا عن الدراسة ,كما استنتجنا من خلال نتائج بحثنا التصنيف الجنسي الذي يسود في عديد العائلات التونسيّة إذ بيّن % 40 من الطلبة و28 % من التلاميذ تبرير أولياءهم للسلوك التمييزي الممارس داخل أوساطهم الأسرية كنتاج للتصنيف الجنسي فالذكر هو الذكر وهو رمز السيادة والهيمنة لذلك يكون متحرّرا من قيود الفضاء المنزلي و تشجّعه العائلة على ارتياد الفضاءات الترفيهيّة في حين أن الأنثى هي جنس بلوري تنظر له كافة عناصر الأسرة بشفافيّة و احتراز لذلك يجب ضرورة الإحاطة بها و مراقبتها . لقد بيّن %72من التلاميذ و %71 من الطلبة أن الأسر التونسيّة تسلّط مراقبة متشدّدة على الفتاة إذ تصد الفتاة وخاصّة في الوسط الريفي من ارتياد الفضاءات الترفيهيّة و هذا ما يجعل علاقتها بالمدرسة امتن من الفتى و لقد أثبت لنا البحث من خلال نتائج الاستبيان مع الطلبة والتلاميذ و المقابلات مع الأولياء أن الفتيات يخصّصن في الغالب أكثر وقت للمراجعة و ينظمن عملهن المدرسي بصفة مسبقة و ينجزن واجباتهنّ المدرسيّة بانتظام كما يتميّزن بهدوئهن و انتباههن أثناء الدرس مما يجعلهن أكثر قدرة على استيعاب الدرس والمشاركة الفعالة مع المدرسين لإثرائه مما يمكنهن من نيل استحسان ورضا مجلس الأساتذة و هذا ما يمكنهن من التفوق في المدرسة سلوكا و نتائجا فيثبت ذلك مرة أخرى المراهنة المتزايدة للجنس الأنثوي على الدراسة و كما يمكن أن نبيّن ذلك من خلال فرضية البطالة و مساهمتها في انخفاض الانجاز المدرسي إذ أن الفتى أكثر تأثرا بالبطالة ففي حين تسعى الفتاة للحصول على نتائج ايجابية وضمان تفوق المدرسي يكون الشاب الطالب مهووسا بأزمة البطالة التي تعرقل لديه كل طموح في النجاح
و المبادرة ممّا يجعله يفكر في حلول أخرى لضمان مستقبله ( كالهجرة أو العمل الحر ). كما استنتجنا أيضا تناقضا بين الفئتين الطلابية و التلمذية إذ تشعر الفئة الطلابية أكثر بالتشاؤم و هي اقل تفاؤل بالمستقبل و ترى أن المستقبل المهني للشباب لم يعد مقتصر على التعليم فقط بل من خلال التأهيل و التكوين في إحدى المجالات و يستطيع الشباب تحقيق طموحاتهم المستقبلية وذلك نتيجة لازمة البطالة المستفحلة و انسداد آفاق التشغيل و بطالة أصحاب الشهادات العليا في المقابل يتقلص الشعور بالتشاؤم و تزداد الثقة في التعليم كرهان من رهانات تحقيق المستقبل لدى الفئة التلمذية و يمكن أن يفسر ذلك بنقص في النضج و قلة الوعي بما يترقبهم في المستقبل . يلعب المحيط الأسري دور في ارتفاع أو انخفاض سلوك التمييز داخل الأسرة و لقد استنتجنا من بحثنا انه كلما نمى المتعلم ( طالب أو تلميذ) إلى البيئات المتسلطة المراقبة و اللامبالية كلّما ارتفع شعور الفئة المبحوثة بالتمييز و كلما نمى لدى الفتاة ( طالبة أو تلميذة ) الشعور بالضغط و المراقبة مما يجعلها أكثر انصياع و طاعة لأوامر العائلة مما يؤثر سلبا على المردود المدرسي للمتعلمين فكلما كان المحيط الأسري متساهلا أو متسامحا كلّما تقلص الشعور بالتمييز و كلّما أصبح المناخ الديمقراطي داخل الأسرة مما ينتج التفاعل الايجابي والمودّة و الاحترام المتبادل بين أفراد الأسرة و يشجّع الأبناء أكثر على المنافسة النزيهة و تحقيق النتائج الايجابية داخل الفضاء المدرسي .
للمستوى التعليمي دور في تقليص أو الترفيع من السلوك التمييزي داخل الأسرة و يمكن لذلك أن يؤثر على المردود الدراسي للمتعلم إذ أن للمستوى التعليمي دور في التقليص أو الترفيع من السلوك التميييزي داخل الأسرة و يمكن لذلك أن يؤثر على المردود الدراسي للمتعلم و بالتالي فان المستوى التعليمي يلعب متغيّرا حاسما في تقليص المعاملة التمييزية داخل الأسرة فكلما ارتفع المستوى التعليمي لأولياء الأسر المبحوثة ( ثانوي و عالي ) كلّما تقلّص التمييز بين الجنسين و سادت قيمة الديمقراطيّة داخل الوسط الأسري و أصبح المتعلم ( طالب أو تلميذ ) أكثر قدرة على العطاء و البذل في حين أنّه كلّما انخفض المستوى التعليمي للأولياء كلّما ارتفع سلوك التمييز داخل الأسرة و انخفضت النتائج الدراسيّة للمتعلم بين الجنسين .
كما يساهم المستوى المادي في خلق فضاء و جوّ تتهيأ فيه كافة مستلزمات الدراسة للجنسين و توفرت الأرضية الملائمة للخلق و الإبداع كما يتقلص فعل التمييز داخل العائلة و العكس صحيح فللمتعلم دور و مجهود يمكّنه من تحقيق نتائج ايجابية طيّبة بالرغم من الممارسة التمييزية السائدة إذ بيّن العديد من المتفوّقين الطلبة و التلاميذ أنهم يحققون أفضل النتائج رغم فعل التمييز داخل أوساطهم الأسرية وهو شكل من أشكال رد اعتبار الذات و رد فعل ايجابي على هذه الممارسة .
كما استخلصنا أيضا أن الفتيات هن اشد مراهنة على التعليم و تعتبر المراهنة على الدراسة مجموعة الطموحات التي يعقدها التلميذ مع المدرسة للاندماج في الحياة المهنيّة بصفة ناجحة و يعتبر المشروع الدراسي للفتاة ركيزة أساسية في تحقيقه بالإضافة إلى اختلاف توقعات الأسرة التي تعوّل على الفتاة التي تمتاز بالطاعة لأوامر العائلة والمدرسة و يمكن أن تتكبّد كافة المسؤوليات التي يمكن أن توجهها لها العائلة في حين لا يقدر الفتى الذكر حتى على تحمل مسؤولية أفعاله فكيف له أن يحقق الحراك الاجتماعي لأسرته .
خاتمة :
اختتمنا هذه الدراسة بأن المدرسة أصبح فيها البقاء للأقوى طبقيّا تتجلى هذه القوة في امتلاك الرأسمال الثقافي و المادي و أيضا الاجتماعي كما بيّنا ذلك كل من عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو وأيضا جون كلود باسرون في الجزء النظري أعلاه أن ثقافة المدرسة هي ثقافة طبقية بالأساس , فاليوم وقد انخرطت المدرسة في عصر العولمة لذلك فقد أصبحت تنتقي من تريد لتصعد به في سلّم التراتب الاجتماعي و أصبحت مقاييس النجاح المدرسي الأصول الاجتماعيّة والاقتصادية و بالتالي يستدعي هذا منا كباحثين و خاصة من علماء التربية وعلماء الاجتماع أن يعيدوا للمفكر ذاته و المدرسة وظيفتها و الأسرة التي اضطربت وظائفها الأخرى في أواخر القرن الماضي وأن تذكّرها بدورها الأساسي وذلك لحماية الناشئة من وسائل الاتصال الحديثة و ذلك لأجل أن يعود إلى رحم الوجود كما يقول انطونيو قرامشي المثقف العضوي الذي يغيّر الوجود و يضمحل المثقف البراغماتي المزيّف له .
المقال مأخوذ من رسالة الماجستير بعنوان المعاملة التميزية بين الجنسين على المردود المدرسي دراسة مقارنة بين التلاميذ و الطلبة مثال ولاية صفاقس , كلية 9 افريل بتونس سنة 2008/2009 إعداد الباحثة في علم الاجتماع مريم بوعلي تحت إشراف الأستاذ حافظ عبد الرحيم .
تعليقات
إرسال تعليق