مقال// للدكتورة مريم بوعلي:بعنوان_تهميش الباحث الإجتماعي في تونس و ضرورة إعادة توظيفه حسب ما يتطلب قدراته و كفاءاته العلمية


 المقال: تهميش الباحث الاجتماعي في تونس وضرورة إعادة توظيفه حسب ما يتطلب قدراته وكفاءاته العلمية.

إشكاليّة البحث: 

يعاني الباحثون في علم الاجتماع من هموم كثيرة لعلّ أبرزها التهميش وسوء التقدير لدورهم المهني المهم والفعال: إذا تتعدّد الأسباب والنتيجة واحدة في هذا الإطار يجب التعريف بمفهوم الباحث الاجتماعي للتطرق لمسببات تهميشه في تونس سواء على مستوى اختيار الشعبة أو في الإطار الشّغلي.

 -ما هي إذا أهم الأسباب الكامنة وراء تهميش الباحثين في علم الاجتماع وهل توجد حلول أو آفاق لتفادي هذا التهميش لإرجاع فاعليّة وقيمة هذه المهنة.

أولا بمصطلح الباحث الاجتماعي

المفاهيم

تعريف الباحث الاجتماعي: هو ذلك الشخص الذي تتوفر لديه العديد من الشروط العلميّة الخاصّة بمجال الخدمة الاجتماعيّة ومهمّته الأساسيّة أو الرّئيسيّة هي "كما ذكر مقال بمجلة المرسال "هي القيام بمتابعة القضايا الاجتماعيّة وذلك على اختلاف أنواعها علاوة على عمله على تقديم الدعم النفسي والمساعدة لكل من يحتاجها وهذا بالإضافة إلى حل المشاكل الخاصّة بالآخرين في مجتمعه سواء كانت المشاكل التي تكون أكثر من شخص أو في النسيج المؤسّساتي والاجتماعي". 

نلاحظ إذا أن الوظائف التي يضطلع بها الباحث الاجتماعي هي وظائف ذات بعد إنساني عالي ولتمكن الباحث الاجتماعي من القيام بعمله بكل نجاخ يجب أن تتوفّر لديه من المهارات والصفات ومن أهمها:

 دقّة الملاحظة فعلى الباحث الاجتماعي أن يتمتع بدقة الملاحظة في أمور أو أحداث تتعلق بموضوع البحث الخاص به وأن يكون الباحث الاجتماعي متمتعا بالنظرية العلمية والشفافية العالية وذلك أثناء دراسته ولذلك فيكون عليه القيام بعرض النتائج كما هي وذلك دون أدنى تعديل عليها وأن يكون أيضا متمتّعا بالبعد الإنساني والقدرة على الشعور العالي بالآخرين ومحاولة بذل كل المساعي والسبل المتاحة له لمساعدة من يحتاج إليها وأن يتفهّم جيّدا نفسيّة الأشخاص التي يتعامل معها وأن يتمتّع بخيال واسع بالإضافة إلى القدرة على التحكم في مشاعره وأن يحظى بتفكير واعي وجيّد وبالتالي فعلى الباحث الاجتماعي أن يتمتّع بذهن صافي وتفكير سليم يساعده من تحليل الظواهر الاجتماعيّة وأن ترافقه في ذلك من أجل الوصول إلى المعلومات الحقيقيّة و العلميّة السليمة.

ولقد ارتأينا من خلال هذه الدراسة رصد الأسباب الكامنة وراء تهميش الباحث الاجتماعي من خلال دراسة حالتين لباحثين في علم الاجتماع 

أولا يجب قبل سردهما فإني حاولت المقارنة بين قيمة العديد من الطلبة الجدد في شعبة علم الاجتماع جمعتني بهم لقاءات متعدّدة في كليّة الآداب بصفاقس وقد أبدى هؤلاء الطلبة تذمّرهم من سوء التقدير لهذه الشعبة الخاصة في بيئتهم الاجتماعية باعتبارها شعبة غير مجدية ونافعة ولا آفاق لها ولا حظوظ في التشغيل. وتعتبر وجهات نظر هؤلاء الطلبة الذين استوفوا دراساتهم في (ماجستير دكتوراه) في 2014 و2016 متقاربة مع البعض من رفاقي في البحث ووجهة نظري الشخصية أيضا.

وهذا ما جعلني أتطرّق لهذه الإشكاليّة والتطرّق لمسبّباتها.

من أبرز الأسباب لتهميش الباحث الاجتماعي أوّلا:

تشعّب الشعبة أو الاختصاص إذ أن مجال البحث في علوم الاجتماع كمهنة هي مهنة لم تنل نصيبها الكافي من الدراسة والتحليل والتدقيق للوصول إلى وصف دقيق يعكس دورها الفعلي والأساسي وتصنيف إداري يبوّئها مكانتها الطّبيعية ويضمن للباحث الاجتماعي الممارسة المهنيّة لدوره بكفاءة وفاعليّة.

سوء تقدير لهذه الشعبة والنظرة الدونيّة لها من طرف المجتمع التونسي وحتى المجتمعات العربية (كالكويت مثلا) وعدم اعطاءها حظا كالمجتمعات الغربيّة ونقص وعي الأفراد والجماعات بأهميّة هذا الاختصاص سواء في المجتمع أو في النسيج المؤسساتي الاقتصادي.

سوء توظيف للأخصّائي الاجتماعي في الإدارات وفي هذا الإطار فإني تحسّست هذا السبب من خلال وضعيتين لباحثتين في علم الاجتماع فالنموذج الأول هو لباحثة تعمل في مجال ليس بمجالها فقد وضّفت في مجال ليس له صلة باختصاصها وهي باحثة متحصلة على شهادة الماجستير  وقد عانت لسنوات طوال من سوء تقدير من المحيط العملي لها وللشعبة العلميّة وعادت بعد سنوات لاستكمال بحثها العلمي وخاصة بعد شعورها بالاغتراب وقلة اندماجها مع الاطار العملي وعدم توافق الشعبة العلمية والوعي المجتمعي لأهميتها وبالنسبة للحالة الثانية نموذج لباحثة متحصلة على شهادة الأستاذية في التربية والثقافة تشتغل كإطار سامي في بإدارة تونسية لا علاقة لها باختصاصها العلمي إذ تذمّرت هذه الأخيرة من سوء تقدير للشّعبة في المجال العملي وعدم وجود صلة بين ما درسته وما تمتهنه بالإضافة إلى الطابع البيروقراطي للنظام الإداري في تونس وما تفرضه من تعسّف وانطلاقا من هاتين الحالتين فإنّ التفاف أصحاب القرار واجب لإعادة توظيف علماء الاجتماع الذين يعملون دون رتبتهم واختصاصهم العلمية وتوظيفهم حسب اختصاصاتهم وقدراتهم وكفاءاتهم العلمية باعتبار أن الباحث الاجتماعي يمتلك القدرة الكافية لرصد المشكلات الاجتماعيّة ووجود حلول لها ومن أبرز هذه المشكلات (الإجرام، العنف المدرسي، المخدرات، التحرش الجنسي، الاغتصاب في الإطار التربوي، الولادة خارج إطار الزواج، الانتحار، الهجرة غير شرعية) وهي مشكلات قد استفحلت في المجتمع التونسي ولو تفطنا لأسبابها ونجد من بين أسبابها غياب توظيف الباحثين الاجتماعيين مثلا في المؤسّسات التربوية والتعليمية وكذلك القطاع الصحي والسجون والإصلاح وكذلك المبيتات الجامعية.

فإذا لاحظنا مثلا أنّ صيحات الفزع التي أطلقها المتدخّلون في الشأن التربوي وفي محيطها يمكن أن نربطها في هذا السياق أنه لو وظف الباحثون الاجتماعيون في هذا الإطار لما وجدت هذه الصيحات ولما ارتفعت سنويّا حالات العنف في المدارس والاعتداءات الموجّهة ضد الإطار التربوي في تونس والتي بلغت أوجها سنة 2019 بنسبة 86% وهي في تصاعد مستمر في السنوات الأخيرة (2020-2021). 

ويمكن أن نوضّح أنّ المجتمعات اليوم بصفة عامة سواء في المجتمع التونسي أو المجتمع العربي عموما تفتقد لعلماء الاجتماع سواء في معالجة المشكلات الاجتماعية ورصدها والتطرق لحلولها وتوظيفهم توظيفا سلبيا لا يتماشى مع القطاع المهني أو قلّة تشريك علماء الاجتماع في القرار السياسي وبالتالي فإن أصحاب القرار مدعوون أن يشركوا بالباحثين الاجتماعيين عند اتخاذ قرار جماعي يهم المجتمع لاسيما صحّة الأفراد ويمكن أن يتبيَّن أهميّة التساؤل عن دور علماء الاجتماع في اللجنة العلميّة لكوفيد 19 باعتبار أنّنا رصدنا إخلالات عند اتخاذ هذا القرار السياسي باعتبار أن السلطة مدعوّة للتفطّن لملائمة قراراتها السارية مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي اليوم لا سيما بعد أزمة أو جائحة الكورونا وضرورة تفهم الجانب النفسي والسلوكي للأفراد قبل إصدار أي قرار سياسي.

يمكن إذا القول إنه كما قال عالم الاجتماع المغاربي جاك بارك "أن المجتمعات المغاربيّة هي ليست مجتمعات متخلّفة ولكنها مجتمعات غير محللة نفسيا واجتماعيا"

وبالتالي فإنّ الدولة اليوم مدعوّة لإعادة النّظر لتوظيف الباحثين في علم الاجتماع مع ما ينسجم ويتوافق مع قدراتهم العلميّة وكفاءاتهم وتوظيفهم توظيفا إيجابيا يسمح لهم بممارسة مهامهم على أحسن وجه.

خاتمة:

إن الباحث الاجتماعي هو باحث مستقل وفريد من نوعه يمكن أن يخلّص المجتمعات الحديثة مما يسود فيها من مشكلات عويصة ولذلك يوجب علميا الاهتمام بهذا المجال البحثي والتشجيع أكثر عليه واحترام كفاءاته وتوظيفهم توظيفا يتناسب مع اختصاصاتهم في القطاع الشّغلي حتى نصل لدرجة من الوعي والتقدم يتوافق مع ما تشهده المجتمعات الغربية من رقي لا سيما وأن هذه الأخيرة مثال يحتذى به في تقدير علماء الاجتماع ودورهم الفعال في المجتمع على خلاف المجتمعات العربية (تونس – مصر – الكويت) التي يرتفع فيها التقليل من الشأن القانوني و العلمي للعلوم الاجتماعية وهذا التقليل يمكن أن يكون مقصودا باعتبار أن من لا يفهم حركة المجتمع والجماهير لا يستطيع أن يفهم سياسات واقتصاديات المجتمعات ومن هنا وجب تغيير العقليّة على المجتمع العربي وإعطاء قيمة للعلوم الاجتماعية والإنسانيّة تماما مثل العلوم الطبيعية والصحيحة.

إذا يمكن لقائل أن يقل إنّ ضرورة تغيير عقليّة العالم العربي عموما وإعطاء صورة ذهنيّة إيجابية عن الاخصائي الاجتماعي يبتعد عن النظرة السلبية والدونية له باعتباره شخص مهمل أو غير مهم وذلك من خلال الدفع بالنخبة الثقافية المقدمة للمجتمع وعلماء الاجتماع وتغيير مفهوم الباحث الاجتماعي وإبراز أهمية عالم الاجتماع باعتبارها شخصية مؤثرة وفاعلة في الحراك والتقدم الاجتماعي يستلزم جهودا من الباحثين الاجتماعيين والعاملين في القطاع للتمسّك بهذا الاختصاص والدفاع عنه بقوّة حتّى تتغيّر عقليّة المجتمع لمدى أهميّة هذه الشعبة ودورها الفعال في توجيه المجتمع إيجابيّا.      

    

تعليقات